Home

A federally-registered independent political party

Follow the CEC on Facebook Follow @cecaustralia on Twitter Follow the CEC on Google +


Follow the CEC on Soundcloud












أتريد أن تتعلم كل شيء عن علم الاقتصاد؟الفصل الخامس

أتريد أن تتعلم كل شيء عن علم الاقتصاد؟
So, You Wish to Learn all about Economics?
كتاب في علم الاقتصاد الرياضي الابتدائي
تأليف: ليندون هـ. لاروش
Lyndon H. LaRouche


ترجمة: حسين العسكري
Translated by: Hussein Askary


صَدَرَت الطبعة الانجليزية عام 1995 عن:
EIR News Service, Inc
Washington, D.C




الفصل الخامس

كيف تنتج التكنولوجيا

How Technology Is Produced



إن المبادئ الأساسية للاختراقات الجوهرية في مجال العلم والتكنولوجيا هي نفسها اليوم كما كانت عليه عندما فصلها وشرحها أفلاطون قبل اكثر من 2300 سنة مضت. فالموضوع يتخلل محاورات أفلاطون ككل في إشارته المتكررة إلى موضوع {{الفرضية}}. فبدون فرضية لا يمكن اكتشاف أي شئ صادق وجوهري في ما يتعلق بعلاقة الإنسان بالكون. فهذه كانت طريقة كوزانوس [1]

و ليوناردو دافينتشي [2]

وكيبلر ولايبنز وغاوس وريمان وآخرين. ففي مسحنا المكثف للتأريخ الداخلي لنشأة العلم الحديث، ومئات الباحثين، الذي استغرق اكثر من عقد كامل من الزمان من العمل في أكثر من أرشيف في العالم ووسط المصادر الأولية المنشورة، لم نكتشف حالة واحدة تم فيها أي اكتشاف جوهري بأية طريقة سوى طريقة الفرضية هذه[3]

.

إن مبدأ الحياة العقلية المتحكم بالاكتشافات العلمية الجوهرية يسميه أفلاطون {{فرضية الفرضية الأعلى}}، وهو مفهوم مركزي في كل عمل أفلاطون. فمن لا يعرف هذا المبدأ و لا يستخدمه لا يعرف أي شئ جوهري من عمل أفلاطون، أي لا يمكنه "أن يدخل في ذهن أفلاطون". وسنشرح ونفصل هذا المبدأ هنا بصيغ معاصرة. ونبدأ من هناك لنبين الارتباط ما بين الحياة العقلية المنظمة وفقاً لهذا المبدأ وأصل القيمة الاقتصادية في العمليات الاجتماعية (الاقتصاديات).

إن مفهوم "فرضية الفرضية الأعلى" تحدد ثلاثة مستويات لصياغة الفرضيات. ونعرف أول هذه المستويات {{بالفرضية البسيطة}}، أما المستوى الثاني فهو {{الفرضية الأعلى}}، والثالث {{فرضية الفرضية الأعلى}}. وسنصف هذه المستويات الآن عن طريق مقارنة صيغ الفرضيات هذه بنوع التفكير المتلازم مع شبكة مبرهنات مترابطة منطقية استدلالية، تكون كل واحدة منها (المبرهنات) مبنية (بالضرورة) على أساس مجموعة من المسلمات والبديهيات المحددة لها.

{{في حالة الفرضية البسيطة}}، يتم تطبيق المذهب الموجود المكون من مجموعة ما من المعارف أو الرأي على ظاهرة ما تم اختيارها لتكون موضوع المراقبة البسيطة أو التجريبية. ففي الفرضية الاختبارية أو لنقل "تصميم الاختبار"، كما تمت صياغته هنا، لا يسمح بوجود أي شيء يتناقض مع البديهيات والمسلمات الثابتة المؤسِسة للمذهب المستخدم. ويعتبر {{التوافق}} المنطقي الاستدلالي لنتائج التجربة مع مجمل كيان المذهب الموجود هو مقياس البرهنة الأساسي.

{{أما في حالة الفرضية الأعلى}}، فتتم الإطاحة بمرجعية جزء من المذهب الموجود. إن موضوع المراقبة البسيطة أو التجريبية هو مجرد واحد من عدة افتراضات بديهية لمذهب سائد. لذا تنتخب حالة اختبارية بحيث إذا حصلنا على النتائج الاختبارية المتوقعة منها، فإنه يتم إثبات زيف الخصائص البديهية للمذهب الموجود بمجملها. إن مثل هذا الإثبات يدل على وجوب نبذ جميع المبرهنات الموجودة في مذهب مستند إلى التطبيقات "الموروثة" لتلك الصفة البديهية من المذهب، ووجوب إعادة بناء التركيبة الشبكية لمجمل ذلك المذهب على أساس المبدأ الذي تم إثباته حديثاً. {{تلك هي طبيعة الاكتشافات العلمية الجذرية}}. وتنجز جميع الاكتشافات العلمية الجذرية باستخدام حالة العمليات العقلية تلك والتي تحددها "الفرضية الأعلى".

وترينا {{الحقيقة التاريخية المتمثلة بالتقدم البشري}}، المفسرة بمساعدة التاريخ الداخلي لتقدم العلوم المعروفة، أن تعاقب الاكتشافات الجذرية المسؤولة عن التقدم البشري هي سلسلة منتظمة ضمنياً. فكل اكتشاف جذري يؤسس مجموعة منقحة من المعارف العلمية؛ أي أن الشرح والتفصيل الناجح لهذه المعرفة لأجل الممارسة يؤدي إلى مفارقات تعزز اكتشافا جذرياً جديداً، والى مجموعة منقحة من المعارف العلمية التي تنقض ما سبقها. لذلك، لا يمكن تحديد موضع مرجعية العلم في تخوم أي مجموعة من الآراء العلمية الحاضرة أو الماضية. فمرجعية العلم تكمن في مبادئ الاكتشاف الجذري تلك التي لا تحتويها أي من الصفات المتناقضة فيما بينها للأجيال المتعاقبة من الآراء العلمية. {{فمرجعية العلم تكمن في مبادئ الاكتشاف الملائمة لتوليد كل واحدة من، أو جميع، السلاسل المتعاقبة الناجحة من الثورات العلمية}}.

ولا تقفز "فرضية أعلى" ناجحة وفعالة من اللامكان وكأنها نتجت عن الحدس الأعمى. فالذي ينتج "الفرضية الأعلى" هو منهج: منهج صياغة مثل تلك الاكتشافات. إن مراقبة اختبارية تختبر المعايير المزعومة لصياغة "فرضيات أعلى" فعالة هي تحقيق تجريبي في مجموعة من المبادئ المتوافقة مع {{فرضية للفرضية الأعلى}}.

بالرغم من أن مبادئ الاكتشاف المثبتة بهذه الطريقة التجريبية فعالة عالمياً، إلا أنها ليست كاملة إطلاقا. {{فهي تظل صيغة فرضية بمعنى أنها لم تصل الكمال}}. فبتقدم العلم عن طريق الثورات المتعاقبة، تميل صفة عدم كمال المبادئ إلى التناقص، ولكن دون أن تصبح كاملة. وهذه المبادئ هي المبادئ الراسخة في مفهوم المنهج الهندسي ـ التركيبي للتفكير المعمق والدقيق. فمبدأ متساوي المحيطات مثال على اكتشاف فرضية غير كاملة للفرضية الأعلى. فعمل غاوس وديريشليت وريمان وآخرين على الهندسة التركيبية لمجال مركب (complex domain) هو مثال على عملية كمال "فرضية الفرضية الأعلى". فأطروحة تخرج ريمان المعنونة "عن الفرضيات المؤسسة للهندسة" لعام 1854 هي فرضية تتحكم في صياغة فرضيات أعلي للهندسة التركيبية، وهي لهذا السبب شهادة علنية حول موضوع كمال "فرضية الفرضية الأعلى". وفعلاً قد نتجت كل واحدة من اكتشافات الكاتب (لاروش) الأساسية في علم الاقتصاد بصورة رئيسية من اتباع برنامج تلك الأطروحة التأهيلية، وفهم أهميتها بالمعنى المشروط هنا، وبمساعدة التشبع بمفهوم مراتب الأعداد ماوراء اللامتناهية (transfinite orderings) لكانتور. {{إذ لا يمكن إنجاز أي اكتشاف علمي جذري موجه إرادياً إلا عن طريق الضبط الذاتي الواعي للحياة العقلية للمرء وفقاً للمعنى هذا لمبدأ معادل لفرضية للفرضية الأعلى}}. وقد يحدث فعلاً أن يساهم آخرون ممن ينقصهم الحس الواعي بهذا المعنى للمسألة بتقديم اكتشافات مهمة جداً متعلقة بقضايا جوهرية. وقد يعرف هؤلاء إلى درجة كبيرة "كيف" تحقق ذلك الاكتشاف. لكن هؤلاء "الآخرين" الذين هم في تلك الحالة الذهنية لن يعرفوا أبدا "لماذا" قاموا بذلك الاكتشاف.

أترغب بأن تغير إحدى البديهيات الأساسية لمذهب علمي ما مقبولٍ عموماً؟ أتزعجك تلك البديهية، وهل يطلق ذلك الافتراض البديهي رائحة زيف وسطحية ملحوظين؟ كيف، إذاً، ستخلق ثورة في العلم؟ أتضرب ذلك الافتراض المشكوك به بصورة عشوائية عمياء؟ أم سيخبرك "إحساسك" أو "حدسك" بذلك؟ أتمنى لك حظاً سعيداً في هذه الحالة لأنك بمثل هذا التلمس الأعمى ستحتاج إلى الكثير من الحظ حتى تعثر على الطرق الصحيحة. أم أنك ستُخضِع ذلك الافتراض البديهي المؤذي لـ "تحليل ابستيمولوجي (علمي تأريخي) عميق". هذا يعني طرح الأسئلة التالية: أية حالة عقلية تلك التي تجعل شخصاً ما يقدم مثل هذا الافتراض البديهي؟ ما هو الشيء المنافي للنظام المقنن للكون في تلك الحالة العقلية؟ ما هو الافتراض الزائف الذي يكمن في أساس صياغة مثل تلك البديهية؟ إن ذلك الافتراض المتخفي، لكن الضروري، هو "كعب أخيل" من ضحيتك المستهدَفة! اضربه هناك، وإذا لم يثمر ذلك الهجوم، فحاول أن تضربه مجدداً هناك بالضبط! لابد لك من أن تبدأ من الوعي بالمبادئ الأساسية المؤسسة لعملية إنتاج الفرضيات الأعلى الناجحة. هذه هي خريطة طريقك إلى الاكتشاف.

ويقودنا هذا الأمر مباشرة إلى النقطة التالية المتشابكة مع الأولى والتي سنستعرضها هنا. يكون العديد من الناس، حتى أولئك الذين يوصفون بالحكمة والحائزين على احترام الناس، متعلقين بشدة بأيمان خرافي، وربما ديني، بكيان لم يتطلب للدلالة على وجوده أي دليل مختبري إطلاقا: وهذا هو الكوارك (quark) الأسطوري.إذ تهدر جهود جبارة للرياضيين والعلماء كل عام على هذا المخلوق الصغير غير الموجود، الكوارك حتى انه اصبح موضوع جائزة نوبل .[4]

لم كل هذا الولع بخلق عادات جديدة لتزيين مخلوق ضئيل لم يثبت أحد ـ إذا أردنا أن نتكلم بصيغة اكثر تأدبا ـ وجوده لحد الآن؟

بعد قراءة بعض مطبوعات طائفة (جاءت هنا بالمعنى الديني لمفردة الطائفة) الكوارك، يذهل المرء لاكتشاف أن بعض اتباع الطائفة هم أناس عقلانيون بدرجة كبيرة، وبعضهم الآخر أناس موهوبون جداً حتى انهم موهوبون إلى درجة تثير الإعجاب. وتبدو نظرياتهم اللاهوتية في الكوارك معقولة جداً رياضياً، أو بالأحرى وبدقة اكثر، منطقية جداً جداً. إن الكوارك هو مخلوق صرف للاستدلالية الشكلية، مثل الجاني في الأعمال الروائية الباطنية لشيرلوك هولمز (Sherlock Holmes) . إن وجود الكوارك والخصائص النوعية الغنية للشروح الرياضية هي الصورة الانعكاسية لتواريخ مقدرة تخميناً "للانفجار العظيم" (Big Bang) المزعوم في الكون. لا الكوارك ولا "الانفجار العظيم" نتاجات لعلم الفيزياء التجريبي. فقد ظهرا إلى الوجود كلياً كناتج فرعي للخصائص البديهية الراسخة في الرياضيات التي تقرر استخدامها. ويوجد كل من الكوارك والانفجار العظيم فقط بصفتهما مسَلّمتين لتركيبة شبكية قياسية (syllogistic lattice-work): فهما افتراضان مشروطان تم وضعهما جزافاً، والغرض منهما هو سد ثغرة كبيرة في النظام الرياضي المذكور. فإذا استخدمنا، على سبيل المثال، رياضيات مشتقةً كلياً من الهندسة التركيبية، فسيظهر أن الكوارك المتخيل والانفجار العظيم المتخيل، ببساطة، شيئان لم يحدثا أبدا.

أما عقيدة "الانفجار العظيم" فقديمة جداً. فقد تم أول شرح وتفصيل لها في صيغتها الحديثة على يد أرسطوطاليس؛ كما أن أول تفنيد متوفر لنظرية "الانفجار العظيم" الارسطوطالية قد قام به فيلون الإسكندري (نحو 13 ق.م.ـ 54م) (Philo of Alexandria)، الذي اثبت أن جدل ارسطوطاليس يتطلب فرضية "قد مات الإله" من النوع الذي أعاد بعثه الرائد النازي فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche). وليس هناك من الأدلة التي عرضها بعض علماء الفيزياء الكونية مؤخراً مما لم يتم دحضه واثبات فشله قبل ألفي عام. فمتى ما طبق المرء رياضياتٍ ما، (رياضيات متطابقة مع مبادئ ارسطوطاليس) على الفيزياء فإن أحد المستخدمين لهذه الرياضيات سيذيع عاجلاً أم آجلاً أن لديه {{دليلاً رياضياً}} على وجود الانفجار العظيم؛ فالكوارك هو وجود خيالي افتراضي من نفس نَسَبِ الانفجار العظيم.

إن السبب وراء بقاء خرافة الكوارك كل هذا الوقت إلى الآن يرجع إلى أن المدافعين عن وجود هذا المخلوق الضئيل يطالبون بان لا يتم إخضاعهم لأي مناقشة مضادة لوجود الكوارك باستثناء المناقشات المفصلة والمصممة في سياق ذلك النوع من الرياضيات المستخدمة أصلا لاختراع ذلك المخلوق الصغير. فعادة ما يتقوى إيمان أتباع طائفة الكوارك بعقيدتهم، طالما بقيت المناقشة محصورة في نطاق مثل تلك الرياضيات. فإذا كان المرام إبراز الحجة الفعالة الشاملة، فيجب استخدام لغة رياضية يمقتها ويشمئز منها المؤمنون شديدو الإيمان (من طائفة الكوارك). فالنتيجة ستكون نفسها وكأن رياضياتهم بمجملها قد بنيت على أساس الإيمان بأن الكوارك موجود؛ ومن ثم فإن تلك الرياضيات تستخدم لإثبات أن الكوارك موجود فعلاً.

لسوء الحظ لا يعرف بعض الناس، الذين يعرفون الشيء الكثير عن الرياضيات المتقدمة، شيئاً عن البديهيات (الفرضيات) التي على أساسها يعتمد مجمل البناء (بناء الرياضيات). ولابد من الإشارة إلى النقطة المتممة لذلك وهي أن ليس لديهم الفهم الكافي لما يسمى أحيانا بـ "المبدأ الموروث" لشبكات المبرهنات. ويعني ذلك أن كل مبرهنة جديدة تضاف إلى الشبكة تكون محكومة بنفس الافتراضات البديهية المستخدمة أصلا لبدء عملية بناء الشبكة. إذا قبل المرء دون مسائلة تحريفات ديكارت الرهيبة حول كون العالَم المادي مجرد كرات صلبة صغيرة هائمة في الفضاء الخالي الاقليديسي وإذا قبل أيضا بالافتراضات الحسابية لأشخاص مثل كرونيكر وديديكند فإن على المرء أن يكون مؤمناً ضمنياً بكل من الانفجار العظيم والكوارك بغض النظر عن إشارته إلى رصد فلكي أو تجربة فيزيائية غيرها أم لا.

لقد أشرنا إلى قضية الكوارك النموذجية لنجعل أهمية النقطة التالية للعلم محسوسة اكثر، وهي النقطة التي سنوليها بعض الشرح هنا.

اشترط عالم فلسفة اللغة السنسكريتي العظيم بانيني (Panini) [5]

أن جميع الكلمات مشتقة من الأفعال. أما الأطروحة المناقضة لها، أي الأطروحة الارسطوطالية الراسخة في علم النحو اللاتيني ومشتقاته، فتصر على أن الأسماء (نحويا) بصفتها أسماء لأشياء يمكن للمرء الإشارة إليها، هي الأولى. فالاسمية الارسطوطالية هي الصفة الشاملة لمبدأ القياس. فالفعل العِلّي مستبعد ومنفي من النظام الارسطوطالي حيث يستعاض بالحد الأوسط بدلاً من الفعل العلي. والنظام الديكارتي هو نتيجة لنفس الشيء. {{خصائص}} (بمعنى الصفات) الأشياء (الأسماء) تؤخذ فرضاً على أنها هي التي تقرر التفاعل بدلاً من أي مبادئ عِلّية في الفضاء الفيزيائي ككل. من أجل فهم كل من "الفرضية الأعلى" و"فرضية الفرضية الأعلى" لابد من سبر الفرق الأساسي ما بين الحقائق التجريبية التي يتم تعريفها من منظور الأفعال المتعدية والتعريف المختلف للحقائق الذي تشتمل عليه الاسمية. عذراً، فلابد لنا من أن نتطرق إلى بعض نواحي علم اللاهوت هنا لأن العنصر البشري تقليدياً قد وضع أفكاره حول هذه القضايا العلمية في سياق علم اللاهوت.

تشير الحقيقة التجريبية المُعَرَّفة من منظور مفهوم الفعل المتعدي إلى عملية تحول معينة غير قابلة للاختزال تحدث ضمن زمن متناه ومكان متناه. ولا توجد "نقاط" بديهية، بل فقط "نقاط" بصفتها حالة متفردة معرَّفة بواسطة طي دائرة على نفسها مرتين. هكذا تكون لمفردة {{فيزيائي}} معنى {{تحول}} (بمعناه المعاكس لوجود معين ساكن ـ ستاتيكي ـ بصورة آنية). ويوجد التحول فقط في زمن متناه وإزاحة مكانية متناهية. من هذا المنطلق، لا يمكن فصل المادة ولا المكان ولا الزمان وكأنها عوامل يوجد كل واحد منها وجوداً مستقلاً عن الاثنين الآخرين. فالمادة لوحدها والمكان لوحده والزمن لوحده هي بنى فارغة من المعنى شيدها عقل موهوم. فلا يوجد إلا {{الفضاء ـ الزمان الفيزيائي}}.

وللحقائق التجريبية، المُعَرَّفة في سياق الأفعال المتعدية، روابط قرابة بالحقائق الأخرى إما عن طريق مشاطرتها المشتركة لنفس الفعل المتعدي، أو عن طريق صلة ذلك الفعل ـ القابلة للاكتشاف ـ بأفعال متعدية أخرى. بهذا، تشكل الحقائق التجريبية المتماثلة مع اختيار من نوع ما لاستعمال فعل متعدٍ ما، تشكل بالنسبة إلى أفلاطون {{نوعاً}}. هذا هو المبدأ الجذري لتلك الصفة من صفات الطريقة الأفلاطونية التي تُسند أليها عادة سمة "الأفكار الأفلاطونية".

وتكون عملية التحول عادة من صيغة ـ نوع "الظهور إلى الوجود". وتمتلك جميع عمليات التحول الصفة النوعية المشتركة هذه. يحتاج هذا الأمر إلى فعل متعد للتعبير عن صفة كونية مرتبطة بصيغة الظهور إلى الوجود حتى يعكس وجود الكون كله باعتباره عملية تحول في الفضاء-الزمان. وبما إن المقصود هو الكون، فإن الفعل يجب أن يكون فعلاً انعكاسياً ذاتياً: أي "ذلك الذي ينجز تحوله الذاتي المستمر"، الذي هو ربما المقصود من مفردة "يهوه الرب"، عوضاً عن الترجمة الواردة في نسخة الملك جيمس (للكتاب المقدس). إن هذه الصيغة من صيغ الفعل الانعكاسي هي ذات استخدام حسن التحديد في اللغات الموجودة، وبالذات تلك الأشكال الأدبية للغات ذات المنظور الفلسفي المتطابق مع منظور بانيني حول موضوع الفعل.

يتضح مما سبق أننا نشترط، كما فعل أفلاطون، وجود مبدأ كوني غير مفترض، والذي يوجه نحوه عملية كمال فرضية الفرضية الأعلى. إن إدراك بديهية الفعل الدائري في الفضاء المرئي، بمساعدة مبدأ متساوي المحيطات، والاكتشاف المصحح (المزداد كمالاً) للهندسة التركيبية "للكل ـ المتعدد المتصل" المفترض على أساس الوجود البديهي للفعل اللولبي ـ المخروطي، هما صيغتان تقريبيتان لصيغة الفعل الانعكاسي: "ذلك الذي ينجز تحوله الذاتي المستمر." ويماثل الأخير بالاسم {{مبدءاً كونياً غير مفترض}}؛ أي أن مناهج الهندسة التركيبية تماثل "فرضيةُ فرضيةٍ أعلى" قابلة للتكامل ولكن عدا ذلك متوافقة معها.

إننا نعترف، بخلاف الاسميين، بوجود العلية، علية متجسدة في الحقائق التجريبية للعمل العلمي، أي في "الأنواع التحولية" للفضاء-الزمان الفيزيائي. فتلك "الأنواع التحولية" تمثل معطياتنا التجريبية؛ بمعنى أن الفضاء-الزمان الفيزيائي بالنسبة لنا هو {{وجود مادي حقيقي}}، أي حقيقي بالمعنى الانطولوجي. بالنسبة لنا يكون "شيء" الاسميين ببساطة "مفردة خصوصية طوبولوجية" لعملية تحول، مفردة خصوصية للفضاء-الزمان. والعلم، في رأيهم، هو تسليك أشياء بديهية خيالية، كالخَرزات في وتر في شبكة مبرهنات استدلالية لشخص أسماني. أو بمعنى آخر، العلم هو مجرد تقطيع أشياء صغيرة إلى قطع اصغر فأصغر مثل الكوارك الخيالي.

العلم بالنسبة لنا مشغول جوهرياً بعملية خلق الحالات الفريدة (singularities) . فعندنا يكون العمل الأكثر جدارة بالإعجاب هو خلق نوع جديد من الحالات الفريدة في الفضاء-الزمان الفيزيائي، مثلما تبدو القضية واضحة في حالة أطروحة ريمان لعام 1859 حول انتشار الموجات الصدمية الصوتية.

إن النموذج الأولى لعملية إنتاج الحالة الفريدة هو أنه في عملية تكرار متناهية لمقاطع عرضية إهليليجية بفواصل فعل لولبي مخروطي لوغارثمي يمثل إنهاء تلك السلسلة التكرارية للإهليليجات مقداراً متناهياً من الإزاحة، أي حجماً متناهياً أو طولاً متناهيا. ويساوي هذا فيزيائياً (في حالة الفعل اللولبي المخروطي المقارب للفعل الأسطواني في الفضاء - الزمان الفيزيائي) أقصر طول موجة يمكن عنده انتشار الإشعاع الكهرومغناطيسي المتماسك على سبيل المثال. ولأسباب متعلقة بالفيزياء الرياضية، خاصة تلك التي تتناول الخصائص التفاضلية للفعل الكهروديناميكي لا بد أن تكون المفردة كهذه المتمثلة بطول الموجة الأقصر المخمنة هنا تعبيراً مكملاً لسرعة ضوء متناهية. وإذا تم إثبات هذا فسيدل على أن هذا الكون الذي نوجد فيه هو متناه طوبولوجياً كما يظهر ذلك في أدلة أخرى بشكل مستقل .[6]

هذا يعني أن أي فعل انتروبي سالب يؤثر في عدد متناه محدد من أحوال الكون مكونا بذلك مرتبة ثانوية للفعل الانتروبي السالب الاهليليجي التكراري المتناهي. إن ما يقودنا إلى البحث في هذا الاتجاه هو موضوع الفعل المتعدي. لقد خَلَقَ الكون ذاتَه في هيئة عملية تحول ذاتي انتروبي سالب مستمر. لهذا السبب لا بد أن يكون الشكل الأولى للفعل الكوني هو تأثير الكون في ذاته بحيث يكون "التركيب المعقد" المتطور الناتج عن عملية تطوير الكون لذاته إلى الآن هو الوضع المؤطر الأساسي الذي يتحكم في كل فعل انتروبي سالب جديد.

حين يكون التركيز منصبا على القضايا الجوهرية يجب على العلم أن ينأى عن التركيز الضيق على الأدلة (الحيثية) الجزئية للعمل العلمي، لكن دون أن تغيب عن نظره تلك الجزئيات (الحيثيات). إن المصطلحين "جوهري" و "كوني" مصطلحان مترابطان. ففي الناحية الكونية نبحث عن "أنواع" species التحولات التي تظهر بنفس المظهر في أصناف مختلفة كلياً من التجارب، حيث تكون هذه "الأنواع" ـ بصيغة تقبل الإثبات ـ صفة مُمَيِّزة مشتركة لكل واحدة من تلك التجارب. إن مثل هذه "الأنواع" من التحولات المثبتة هي الحقائق {{الجوهرية}} للعلم نسبياً.

ويوجد لدينا، في الحياة على الأرض، صنفان اثنان معروفان جيداً لا غير من أصناف التجارب المتطابقة في خصائصها النوعية الجوهرية مع الكون الأنتروبي السالب الذي برهن على وجوده ضمنياً البرهان الذي قدمته قوانين كيبلر الفلكية. وهذان هما العمليات الحية عموماً والسلوك الانتروبي السالب لمجتمعات (اقتصاديات) بأكملها. ففي مجال علم الأحياء (البيولوجي) حققنا تقدما متواضعاً جداً، والسبب الرئيسي لذلك يعود إلى الإهمال وسوء التوجيه تجاه إتقان مبادئ العمليات الحية باعتبارها {{عمليات حية}}. إلا أننا حققنا تقدما احسن، من هذه الناحية، في "الاقتصاد الفيزيائي" (علم الاقتصاد).

لنطلق اسم "مسلكي الخرز" على الاسميين. لا يمكن إنتاج أي اكتشاف جديد وفعال من "تسليك الخرز" الارسطوطالي بحد ذاته. فبواسطة طرق كهذه لا يمكن على الأقل إنتاج أي اكتشاف عميق. مع ذلك، قد ينتج شخص مدرب ومعتاد على عملية "تسليك الخرز" هذه شيئاً ذا أهمية أو اكتشافاً مهماً بين الفينة والأخرى. وفي بعض الحالات يصدر مثل هذا الاكتشاف على فترات زمنية قصيرة. وإذا أحس ذلك الشخص بضرورة تفسير اكتشاف كهذا فإنه، إن كان "مُسلك خرز" شريف ومتفكر، عادة ما سيذكر أن الاكتشاف لم يكن حقاً نتاجاً لإجراءات "تسليك الخرز" المعتمدة؛ بل جاءت إلى العالم العملي لـ "تسليك الخرز" وكأنما من الخارج، من مصدر لاوجود له، وغير مسموح له أن يوجد في ميدان "تسليك الخرز". ولربما أطلق ذلك الشخص على هذا المصدر الخارجي اسم "الحدس". وقد يذكر ذلك الشخص انه من الحصافة، لكي يوازن المرء حياته، أن يتمتع بعطلات فكرية بعيداً عن "تسليك الخرز"، عطلات في صيغة رحلات سياحية جامحة في الظاهر يقوم بها الفكر. ويستحسن التغاضي عن معظم التفسيرات الشعبية الشائعة لـ "الحدس" بصفته مصدراً للاكتشاف العلمي؛ فلم يتم اكتشاف أية دقة ولا أي عمق في أي من تلك التفسيرات الممتحنة لحد الآن. إن ما يواجهنا في أمثال الحالة المذكورة هو استيعاب غير واعي لمبدأ "الفرضية الأعلى"، شئ تم "تغييبه" من الوعي بسبب الحاجة إلى الحصول على شئ احسن من مجرد درجات اجتياز الامتحان وسط متطلبات التلقين المذهبي في فيزياء رياضية قياسية ـ منطقية (مثلاً). أما ذلك الجزء من العقل الذي يثور ضد عملية التكييف تلك فيفرض عليه الظهور بمظهر الجزء الذي يجلب العار لشخصية الطالب، وهي ناحية من نواحي "حياته التخيلية" عليه أن يخفيها عن السلطات وعن أقرانه إن أراد أن لا يكون محط سخرية في مجال مهنته. إنه هذا الجزء من عقل المكتشف الذي قد يتم اعتباره، خطأً لكن بشكل مفهوم، على انه "الحدس".

الحدس، إذا زعم شخص ما وجوده فعلا، هو وازع لا عقلاني أو بقية من بقايا ما كان آدم سمث يسميه "الغريزة الأصلية الآنية". إن طبيعة مثل هذا الشيء الصبياني المتوحش تتناقض مع ذاتها ولا تسمح لنفسها أن تنشغل بإنتاج "فرضيات عليا" وأن تفكر تفكيرا كونيا بطريقة هندسية تركيبية. إن ما يشخصه بعض المكتشفين العلميين على انه ملَكة "الحدس" ليست إلا ناحية جيدة التهذيب والتربية، وإن كانت غير واعية بدرجة أو بأخرى، من نواحي حياتهم العقلية. إن هذه التربية لابد وان تميل إلى الحدوث "بصمت"، ولكن بفعالية، في مسيرة حياة التلميذ إلى المدى الذي يقوم فيه التلميذ بتنمية وتطوير حسٍ للبناء الهندسي لأنواع من المفاهيم: لربما في حالة التلميذ الذي يكون "على الطريق" إلى مهنة في مجال علم الفيزياء وذلك بمساعدة المعلمين أو آخرين يصرون على أن يقوم الطالب بنفسه بتكوين برهان كل فكرة يتمثلها خطوة فخطوة. بهذا يكون التلميذ قد قام بتمثل تجربة إعادة اكتشاف ما قام المكتشفون باكتشافه قبله. فإذا كان التلميذ قد عاش تجربة منهاج "ياكوب شتاينر" في الهندسة التركيبية واكتسب عادة التفكير بمثل هذه الطريقة حتى وإن كانت على نحو غير واع، فإنه تبعاً لذلك سيتمثل، حتى بدون وعي منه، ذلك النوع من القابلية اللاواعية المهذبة من نفاذ البصيرة العميق والدقيق وهذه القابلية هي التي تعزى أحيانا لـ "الحدس".

ويعيش معظم الأشخاص المتحضرين بدرجة أو بأخرى تجربة مبدأ الاكتشاف. ويكون ذلك بين العامة مرادفاً لذكرى "على طرف لساني". ففي حالة اكتشاف شيء جديد كلياً على معرفة المرء، خلافاً للصراع مع الخدع التي تلعبها الذاكرة أحيانا، يسمع المرء بغتة نفسه يفكر بشيء لم يفكر به من قبل: بغتة يكون ذلك الشيء ببساطة "موجوداً"، ويغمر المرء إحساس عاطفي قوي "بمصداقية" ذلك الشيء بنفس الطريقة التي يتعرف بها المرء على مصداقية وحقيقة ذلك الاسم أو الشيء الذي كان المرء يكافح ليحضره إلى ما يتعدى "طرف لساني". ولا يعنى ذلك الإحساس العاطفي "بمصداقية" الاكتشاف أن الاكتشاف فعال وصحيح، بل إن ما يعنيه هو انه اكتشاف لا غير.

تكون قدرة الاكتشاف الكامنة في الشخص في الوضع الاعتيادي قدرة غير واعية. ففي تجربتنا تكون وكأنها موجودة في الخفاء خلف مدخل مقفل لغرفة في عقل المرء منا. يقوم المرء بتمرير ملاحظات من تحت الباب إلى المخلوق المتخفي في الغرفة؛ ثم ينتظر المرء أملا في أن يأتي جواب على الرسالة. نسمع المخلوق يهرع إلى الباب؛ فتتملكنا اليقظة؛ هنالك شئ على طرف لساننا؛ إننا على وشك أن نتسلم رسالة، يراودنا الأمل بذلك، من المخلوق أو كائناً ما كان خلف ذلك الباب.

أحيانا نربي المخلوق، كائناً ما كان، ونعلمه. فأفكارنا الواعية تبلغه، أي أننا نجري نمطاً غريباً من الحوار الصامت معه. فإذا كنا محظوظين فإننا سنكتشف أن المخلوق، كائناً ما كان، له موهبة طبيعية في الهندسة التركيبية. أننا قد نتصرف، سواء أكان ذلك إراديا أم بغير وعي، بطرق لها نفس تأثير تعليم وتربية المخلوق عن طريق امتحانه بالمشاكل الهندسية أو تحوير المعلومات التي ننقلها إليه في صيغ هندسية. وفي نفس الوقت يبدو هو وكأنه يتنصت دائماً من خلف المدخل مسترقا السمع لكل ما نفكر به. فإذا ما حافظنا على علاقة ودية على نحو معقول مع المخلوق وزودناه بالمادة التي يحتاجها لتعليمه ، فإننا سنبدي درجة اعظم من الذكاء أمام العالم الخارجي.

وإذا اتقننا "فرضية الفرضية الأعلى" على نحو وافٍ، فإن الباب سيفتح أمامنا. أما المخلوق الذي سنواجهه فإننا سندرك انه نحن أنفسنا.

لقد وفرنا هذه التشبيهات للغرض العملي المتمثل بمحاولة إعطاء القارئ فكرة عن توجه عملي لعملية تنشئة قدرات العقل الإبداعية، وجعل هذه الفكرة مفهومة حسياً قدر الإمكان. وبالإضافة إلى النزعة القوية إلى أن نوفر لأطفالنا نوع التعليم المقترح ضمنياً في كتابنا هذا، فإن علينا أن نواظب مسألة تعليم كل واحد من أفراد مجتمعنا تعليماً ضمنياً، أي أن نعلم ضمناً ذلك المخلوق الموجود خلف الباب الموصد على احسن وجه يمكن تدبيره.

ولتوضيح هذه المسألة توضيحاً كاملاً علينا تسجيل نقطة أخرى هنا.

لابد أن كل واحد منا قد لاحظ محدودية قدرتنا على التركيز في سعتها وأمدها. فبعض مواضيع وأنواع الفكر تشعرنا بالضيق: أي أن العقل يرفض التركيز عليها. أو أن التركيز يتلاشى حتى أمام بعض المواضيع المرغوبة اكثر لدينا. إذا أمعنا التفكير في مثل هذه الظواهر بانتباه اكثر فإننا قد نلاحظ أن حياتنا العاطفية ترتبط ارتباطاً كبيراً بالطريقة التي يتحدد فيها تركيزنا بشيء من التنوع. وقد نضع يدينا على دليل أن السمة المميزة لهذه العملية العاطفية وسمة النوع المشتركة للألوان المختلفة للعواطف المتعلقة بهذا الشأن هي (أي السمة) الحس بالهوية الشخصية. فحينما يملؤنا أمر ما بالبهجة أو الغضب، مثلاً، تصبح ألوان الموضوع قيد البحث زاهية اكثر. وقد يؤدي الغيظ الأعمى في أوضاع أخري إلى إغلاق جميع المواضيع غير المرغوبة، وهكذا دواليك. أما في ما يخص مدة التركيز فالأمر متماثل بالرغم من انه مختلف بعض الشيء. فهو متشابه من ناحية؛ إذ توَلِّد مواضيع البحث التي يقودنا إليها التركيز على موضوع بحث أولي استجابة مشابهة لتلك التي يولدها الموضوع الأولى. وهنالك أمر آخر أيضاً، أمر ذو أهمية خاصة لما يتعلق بعملية الاكتشاف. فبالإضافة إلى الاستجابة إلى مواضيع البحث الداخلة في مدة تركيز ما، فإننا نستجيب للخصائص المميزة للعملية المحتوية على نسق انتظام مواضيع البحث هذه. إننا نستجيب لهذه الخصائص استجابة عاطفية كذلك. نعود فنقول أن هذه العواطف ترتكز ارتكازاً أساسيا على {{حسنا بهويتنا الشخصية الاجتماعية}}.

فعلى سبيل المثال، إن فكرة كوننا أصحاب مهنة علمية ما تعطي أفضلية ليس لمواضيع بحث معينة فحسب بل ولبهجة معايشة نوعية التركيز المعمق في فكر المرء منا: ذلك التركيز الذي يرتبط عندنا بهوية كون المرء عاملاً في مجال علمي كهذا. أما في حالة الشخص الذي يرفض مثل هذه الهوية الاجتماعية لنفسه أو لنفسها، كما هي الحال مع امرأة شابة تم تكييفها للاعتقاد بأن التفكير المرتبط بالعلوم "غير أنثوي" ويجعلها "امرأة اقل جاذبية"، فإن مجرد الشعور بمثل هذا التفكير عند التوسع في تركيز المرء هو أمر مثير للنفور بحد ذاته؛ إذ يتوقف العقل عن المحاولة ويتلاشى التركيز.

إن التعليم الضمني للسكان الهادف إلى معدلات عالية من التقدم التكنولوجي يتطلب انتشار نوع من الحس بالهوية الاجتماعية المتساوقة مع نشاط عقلي إبداعي ذي مدى تركيز متطاول. وهذا الأمر ضروري لنواحي عملية حل المشاكل المرتبطة بتمثيل وتطبيق الاكتشافات الجديدة ونشرها أيضا.

وبالإمكان تنشئة ذلك بإعطاء قيمة اجتماعية اعظم للأشخاص الذين ينجحون في أداء مثل هذه الجهود من أولئك الذين يتجنبونها. ولكن يجب أن لا يكون هذا الأمر ببساطة مجرد قضية صيغة ثقافية لـ"توجيه الآخرين"؛ أي أن لا تكون قضية تحجيم نظرة المرء إلى ذاته إلى مجرد رأي شخص آخر به. فيجب أن يكون الهدف هو تنشئة حس "بالتوجه الذاتي الداخلي" بأن الفرد الذي يقدم مساهمة للمجتمع بهذا الشكل هو فرد مهم ونافع أيضا ليس فقط بسبب قواه الإبداعية بل والتزامه بزيادة تطوير هذه القدرات والاستخدام النافع لها. فما هو مطلوب ليس صورة وانطباع المرء في الرأي المزعوم للآخرين (السلطات والأقران، الخ) بل حس داخلي أخلاقي بالهوية.

وتصبح هذه النقطة اكثر وضوحاً بالإشارة إلى المحطات الرئيسية للكيفية التي تم بها تدمير الثقافة السائدة في الولايات المتحدة أثناء العقدين الماضيين. منذ منتصف الستينيات بالذات جرت عملية تحول ثقافية في الأخلاقية الرسمية "للرأي الشعبي" (كما تشهد بذلك وسائل الإعلام الأخبارية ووسائل الإعلام الترفيهية الكبرى) بعيداً عن قيم العقلانية والتقدم التكنولوجي والتوجه المستقبلي، إلى قيم الثقافة المضادة المتمثلة في جيل "الآن" و "أنا". باختصار: عملية نكوص للثقافة باتجاه مذهب السعي للمتعة اللاعقلاني والوجودية الراديكالية. وعوضاً عن محاولة الانخراط في المناقشة الطويلة ضرورة لعملية التحول الثقافي هذه، ستقتصر مناقشتنا على تلخيص بعض المحطات الرئيسية بما يكفي لخدمة المقصد.

كان جوهر عملية استغلال الرأي الشعبي والأخلاق هو العلاقة التواكلية ما بين "ثورة التحرر الجنسي" كما كانت متمثلة في مجلة "بلاي بوي" (Play Boy) الخليعة الداعية إلى إباحة المخدرات منذ بداية الخمسينات، وهبوط وظائف العمال الإنتاجيين في نظر الناس إلى "طبقة اجتماعية أدنى". كانت "بلاي بوي" الاسم المناسب لحركة الثقافة المضادة ككل. فقد كان المبدأ ولا يزال: مذهب اللاعقلانية الشهوانية، وانحطاط إلى حالة عقلية فكرية وأخلاقية صبيانية تحفزها دعوات مفتوحة إلى حياة تَهَرّب خيالية من الواقع إلى عالم الجنس وما يرتبط به من طقوس العربدة. وقد تداخل هذا الشيء بحركة الانتقال إلى الضواحي في الخمسينات: وهي عملية تحول قيم من الحياة الحضرية الصناعية ضمن اسر ضربت جذورها في مجتمع العمال المنتجين.

ومن الأمثلة النموذجية على عملية تحول القيم هذه هو التذمر الهستيري: "أنا نائب رئيس شركتي، والسباك الذي يعمل عندي يحصل على أجرة اكبر من أجرتي!" أو في حالة الساعي البسيط في أحد المكاتب الذي طلب الانضمام إلى جمعية جون بيرتش اليمينية المتطرفة بعد سماعه مرارا وتكرارا أن العمال المنخرطين في نقابة العمال المشتغلين في مصنع ما يحصلون على أجور أعلى من مرتب شخص مثل حضرته و"بالمكانة المهمة" التي يحتلها في هذا البلد. إن شريحة "الياقات البيضاء" القلقة هذه كانت القاعدة الاجتماعية العريضة لثورة "البلاي بوي". ولم يكن في نطاق علم الاقتصاد وجود لأي سبب يبرر حدوث هكذا تحول في تركيبة القوة العاملة مرتبط بـ"تحول القيم" الحضاري هذا. وقد تلازم مع هذا الأمر أن أصبحت "مهارات" "طبقة أصحاب الياقات البيض" الآخذة في الازدهار غير ذات قيمة للاقتصاد مثلما هي الحال مع العمال المنتجين. كان عدد كبير من "طبقة الياقات البيضاء" يحلمون بأنهم كانوا يتسلقون شيئا فشيئا إلى المراتب الخلفية من طبقة الأغنياء. لكن معظمهم اكتشف بأن عملية الصعود هذه تشابه عملية المشي على حبل مشدود بينما كان الخوف من السقوط دائما لهم بالمرصاد. أما موقعهم الاجتماعي الذي كانوا يحلمون به فكان في واقع الأمر محفوفا بالمخاطر. وقد تزامن مع هذا الوضع ظهور الفلسفة القائلة "أن سر التفوق والنجاح هو الغش والخداع". حاوِل أن تغش في أي يوم وبأية طريقة، حتى بوسائل "الثورة الجنسية". إن أهم ما في الأمر هو ليس أن هذا قد حدث فحسب، بل ظهور القيم الاجتماعية الجديدة الذي تزامن مع حدوث ذلك.

ثم تغير الواقع المحسوس من مبدأ "ما يمكن أن تبنيه" إلى "الترفيه الذي يمكن أن تحصل عليه". وتحول هذا الترفيه تدريجيا إلى نوع ما من أنواع الانغماس في اشد أصناف المحرمات انحطاطا. ثم وقع الانفجار الاجتماعي بين أبناء الضواحي في وسط وأواخر الستينات، أما الآباء فقد حاولوا أن يتأقلموا مع العادات التي يئسوا من محاولة تغييرها. في عام 1969 احتل هنري كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي رمزيا وعملياً. وأُطلِق العنان للحركة "البيئية" وتحديد النسل، التي بدأت بشكل ريادي تحت إدارة ليندون جونسن ضد مجتمع شاب أحبطته صورة مجتمعهم المنغمس في حرب لا نهاية لها في فيتنام. وتهشمت صورة الولايات المتحدة السابقة التي كانت رسالتها في الوجود تحقيق هدف عالمي. في ذات الوقت حقق المفهوم النتشوي (نسبة إلى فريدريك نيتشة) لتغير القيم تقدما كبيرا. وكان ناتج ثقافة الضواحي و "ثورة بلاي بوي الثقافية المضادة" (ذات النوازع اللاعقلانية) هو تحول الشباب والليبراليين إلى غوغاء يتلذذون بتفتيت الاقتصاد قطعة فقطعة باسم المالثوزية المحدثة المعارضة للتقدم العلمي تارة، أو متعة انتصار مجموعة لا عقلانية فوضوية على مرجعية التقدم التكنولوجي.

إن هذا التحول في القيم الحضارية لم يكن سابقة في التاريخ الحديث، بل سبقه إرهاب اليعاقبة في فرنسا مثلا، أو ظهور حركات "أوربا الفتاة" الراديكالية تحت قيادة جوسيبي مازيني في أواسط القرن التاسع عشر.

فلم يعد المجتمع، أو "الرأي العام" يثني على الإمكانيات الإبداعية لعقل الفرد ويعتبرها ذات قيمة للمجتمع. فالصفات الإنسانية المرتبطة بقوة تركيز الإنسان على عملية استيعاب وتمثل الاكتشافات العلمية السابقة يتم إخمادها بسبب اختيار شخص لا عقلاني لهوية اجتماعية ما. إن الولايات المتحدة الأمريكية سيكتب عليها الزوال عن طريق التفسخ الداخلي فيها إذا لم يتم تحويل هذا التوجه في الرأي العام نحو تغيير القيم الحضارية لتتوافق مع حس بالهوية اكثر أخلاقية وعقلانية.

فإذا افترضنا أن هذا التحول الإيجابي المطلوب بشدة سيحصل، فإن التركيز على أنماط العمالة يجب أن ينصب على النقاط الثلاثة المهمة التالية:

1ـ رفع نسبة العمال المنتجين ضمن القوة العاملة إلى 50%.

2ـ تركيز هذه الزيادة في توسيع قطاع السلع الإنتاجية للإنتاج الصناعي.

3ـ رفع نسبة العاملين في مجال البحث والتطوير إلى 5% من مجمل اليد العاملة.

كما يجب دعم هذه السياسة بتحول مماثل في أعباء الضريبة وسياسات الإقراض ونسب الأجور. ويتطلب هذا الأمر تغيير التوجهات الحديثة في التعليم العام نحو برنامج هومبولت للتعليم الكلاسيكي، ويقع ضمن ذلك إدخال برنامج إلزامي لتعليم الهندسة التركيبية من المرحلة الابتدائية (بدءا بألعاب هندسية مسلية). وبالإضافة إلى الحاجة الاقتصادية العملية لمثل هذا التحول، ينبغي تشجيع عملية تحول ثقافية بحيث يؤثر ذلك في الحس بالهوية الشخصية للفرد وموقعه في المجتمع.

سنحتاج في هذا الوضع الجديد إلى تطوير مراكز بحوث ومختبرات تدريب متكاملة توفر تعليما شاملا للشباب الموهوبين العاملين في الحقل العلمي وخاصة في مجال الفيزياء الرياضية من منظور مبدأ الهندسة التركيبية. كما يجب التشديد على دراسة التاريخ الداخلي للعلوم عن طريق دراسة المصادر الأصلية والاطلاع عليها. في هذا السياق ينبغي جعل مبدأ "فرضية الفرضية الأعلى" مبدأ واعيا في ذهن التلميذ. إن هذا التوجه المشتق من برنامج مونج الناجح في تخريج ما سماه "فيالق المتعلمين" في مدرسة الايكول بوليتيكنيك يجب أن يسير نحو خلق فيالق من الباحثين والمعلمين لتوظيفهم في المختبرات والجامعات وبرامج البحث والتطوير الصناعية في كل أرجاء الجمهورية. ويجب أن لا تكون مهمة هذه المراكز تنشئة الإمكانيات العلمية الخلاقة للأفراد المتدربين وحسب، بل ويجب تنمية حس بالاتجاه وبلوغ الأهداف فيما يخص الحدود القصوى للاكتشاف العلمي وحقول المعرفة غير المسبورة التي يفترض بنا أن نتقنها خلال الجيل القادم.

بالإضافة إلى ذلك، سيوفر انتشار معرفتنا وتطبيقنا لعلم اقتصاد يربط مباشرة ما بين إنتاج القيمة الاقتصادية والقضايا الجوهرية للبحث العلمي، سيوفر القاعدة المطلوبة لتوافق إدارة الاقتصاد مع البحوث العلمية، وهو الأمر الذي تحتاجه سياسة قومية ذات "دافع علمي".


الهوامش

[1] إن المصدر المفضل للاطلاع على طريقة كوزانوس العلمية عموما هو كتابه "في الجهل المتعلم" (De Docta Ignorantia). أما فيما يتعلق بتفكير كوزانوس الشخصي في "فرضية الفرضية الأعلى" لأفلاطون، فإن ذلك يتركز بشدة في كتابه (De Non Aliud).

[2] إن أفضل مصدر للاطلاع على مدى سعة عمل ليوناردو دافينتشي قد تم طبعه في عام 1938. وتوجد منه حاليا طبعة ثانية ممتازة لترجمته الإنجليزية بعنوان (Leonardo da Vinci) صادر في نيويورك في 534 صفحة وتم طبعه في صيغة كراس يحتوي على نسخ ممتازة من لوحاته ورسومه التخطيطية تم شرحها بسخاء. وهذا الكتاب هو نتاج لندوة عقدت في ميلانو قبل الحرب العالمية وهو عبارة عن أجزاء مقسمة حسب الموضوعات ألفها عدة أشخاص وقد جمعت في مجلد واحد. في بعض الأقسام وقع هؤلاء الخبراء في أخطاء معينة بعضها يخص قضايا مهمة أحيانا. لكن وجهات نظر هؤلاء المعلقين ووجهات نظر دا فنتشي معروضة بشكل منفصل وبقدر معقول من العناية. وإذا كان لدينا نظام تعليمي منظم بشكل جيد، فلا بد لكل طالب أن يدرس بإمعان محتويات هذا الكتاب قبل التخرج من المدرسة الثانوية. النقطة التي نريد توضيحها هنا هي أن خصوبة دافينتشي العلمية الهائلة لم تكن مشتقة من إتقانه لطريقة أفلاطون وكوزانوس فحسب، بل وانه كان مدركا وواعيا بشدة بالعلاقة ما بين طريقته واكتشافاته.

ومن بين اكتشافاته المهمة العديدة الناتجة مباشرة من استخدامه لهذه الطريقة، هو اكتشافه أن الطاقة تنتشر بالإشعاع (الضوء مثلا) بسرعة انتشار محددة وإن الإشعاع يكون في هيئة حركة موجية مستعرضة. وأصر على أن جميع الحركات الموجية هي مستعرضة بطبيعتها وبضمنها الموجات الصوتية. وقد ظن الناس أن دافينتشي كان مخطئا في هذه المسألة الأخيرة المتعلقة بالصوت حتى جاءت أطروحة ريمان عام 1859 حول انتشار الموجات الصدمية الصوتية. (لقد بنى دافينتشي معظم إنجازاته حول ظواهر إشعاع الطاقة على مبدأ انتشار الموجات الصدمية). وقد انطلق ريمان بناء على إنجازاته الشخصية في مجال علم الكهروديناميك (مثلا مبدأ الجهد المعوق لانتشار الإشعاع) ليثبت أن مسبب مسار الموجة الصدمية الجلي الذي يظهر في التجربة البسيطة باستخدام الشوكة الرنانة يتولد عن موجة ذات شكل إشعاع كهرومغناطيسي. إن المعدل الذي تنتشر به الموجات الصوتية في الجو هو المعدل الذي يصبح فيه الوسط الهوائي شفافا ذاتيا للسماح بانتشار مؤثر كهرومغناطيسي وهو وضع نسبي لا يمكن تركيبه عند سرعات اكبر من معدل سرعة جزيئات الهواء. على هذا الأساس وصف ريمان في أطروحته عملية توليد مثل هذه الجبهات الصدمية بـ "فرقعة صوتية". إن البرهنة المختبرية على الدقة الفريدة لأطروحة ريمان الآن تبين أن ليوناردو كان مصيبا من ناحية المبدأ في وجهة نظره حول الطبيعة الموجية المستعرضة لعملية انتشار الموجات الصوتية، وأيضا في اختياره للطريقة التي طور بواسطتها رؤيته حول الإشعاع وانتشاره في صيغة موجات مستعرضة. في حالة أخرى، انتبه الدكتور ستيفين باردويل Steven Bardwell من دراسته في أحد المتاحف لواحدة من الرسوم التخطيطية لدافينتشي حول ظاهرة الاضطرابات الهيدروديناميكية أن دافينتشي حصل على نتائج لم تتم إعادة اكتشافها إلا بعد عام 1970 (!) على يد الدكتور فريد تابيرت (Fred Tappert) وآخرين وبمساعدة أجهزة الكمبيوتر! وقام باحث آخر يدعى دينو دي باولي (Dino De Paoli) باكتشاف آخر أثناء عمله على بعض المواد الموجودة في مدرسة إيكول بوليتيكنيك في باريس إذ وجد أن الوسيلة التي استعملها دافينتشي في تجاربه التي رسمها في مخطوطاته هي استعمال ماء ملون بألوان مختلفة (!) عن طريق تلوين الماء أو تعليق مواد ملونة فيه.

[3] هذه ليست مبالغة. لقد أنجز البحث بطرق يمكن تشبيه بعضها بعمليات تحقيق استخباراتية كبرى بإشراف وتعاون خبراء من ذوي الاختصاصات المناسبة لهذا الشأن. إن عملية البحث المستمرة هذه ـ التي بدأت في حوالي عام 1970 في أربع قارات وباشتراك مئات الأشخاص في نواحي عدة من هذا البحث وتم فيها استكشاف مواد أرشيفية هامة لم تلمسها يد من قبل ـ كانت ولا تزال من اكثر أعمال البحث إثارة وغزارة بين تلك التي لهذا الكاتب علم بها. إن عملية البحث هذه أشارت إلى صحة الفكرة المطروحة في هذا الكتاب.

ولا بد من الاعتراف بأن هذا التقرير ينقض تلك الخرافات والأساطير والأكاذيب أو الأخطاء التي أصبحت شائعة في الصفوف والكتب المدرسية اليوم. إن ما يسمى بقضية لايبنتز ـ نيوتن المثيرة للجدل هي مثال توضيحي لكيفية استمرار وانتقال الأساطير الشعبية. إن من الأمور الموثقة توثيقا جيدا هو أن لابينتز أرسل إلى مطبعة في باريس أول تقرير له حول إنشاء حساب التفاضل في عام 1676 وذلك عند رحيله من ألمانيا. لقد تمت استعادة تلك الوثيقة، وكان عمل لايبنتز حول تطوير حساب تفاضل معروفا جيدا في أوساط الجمعية الملكية في لندن في المدة ما بين عام 1672 و 1676 أثناء عمله في فرنسا. ولم تظهر "تدفقات" نيوتن إلا بعد عقد من الزمان. وبالرغم من أن خزينة نيوتن التي تحتوي أوراقه المختبرية لا تزال موجودة إلا انه لا توجد فيها أية إشارة إلى أن نيوتن فعل أي شيء حول التدفقات سوى انتحال عمل هوك (Hooke)، (بالدرجة الأولى) وعمل أشخاص آخرين. وكما أكد أنصار باباج (Babbage) في تقرير شهير أصدروه في أوائل القرن التاسع عشر بعنوان ("Dottage and D-ism") فإن حساب لايبنتز يعمل أما حساب نيوتن فلا يعمل رغما عن الجهود المشتركة التي بذلها لابلاس وكاوشي لإعادة "تنقيح" حساب لايبنتز ليتوافق مع "مذهب حدود" مقحم عليه. مع ذلك فإن خرافة "التزامن الوقتي" لعمل كل من لايبنتز ونيوتن لا تزال مقبولة بشدة باعتبارها حقيقة واقعة. حتى أن البعض يدافع عنها باستماتة بالنيابة عن نيوتن إلى يومنا هذا.

يكمن قسم من المشكلة في عملية الاستعانة بالكتب المدرسية بدلا من قيام الطالب بدراسة النصوص الأصلية واعتمادا على قدراته. إن الذين يفترض أن يسمح لهم بتأليف الكتب المدرسية ينبغي أن يكونوا فقط أشخاص يصفون اكتشافاتهم الشخصية أو أن تكون كتبهم مادة مساعدة في برنامج دراسة المصادر الأصلية ذات العلاقة. مشكلة الكتب المدرسية عموما هي إنها تكتب في صيغة سلسلة متتالية من التفسيرات لتراكيب لغوية تم رفعها من سياقها الأصلي للمرجع العلمي الذي ألف النص. إن الخليط الذي ينتج عن هذه الطريقة عادة ما يذكر المرء بكاتب عمود النميمة في جريدة ما، حيث يقفز الكاتب من موضوع إلى آخر: "الآن نتناول معادلة فلان وفلان …." ولا يمنح الطالب فرصة الاطلاع على الصورة الفعلية لطبيعة واستمرارية عمل أحد الأجنحة المتصارعة بمرارة فيما بينها ولا طبيعة الاختلافات الجوهرية في طريقة التفكير و "المسلمات" البديهية للأطراف المتضادة. "معادلات كاوشي ـ ريمان" هي نموذج مثالي لتوضيح التأثير الذي ينتج عن مثل هذه العملية، فالتناقض والتضاد التام بين طريقة تفكير ريمان ومفاهيمه الانطولوجية وتلك التي في كاوشي كانا على درجة لم يجاريهما فيها إلا عدد قليل من علماء الفيزياء الرياضية البارزين في القرن التاسع عشر، على الرغم من نزعة كاوشي المعروفة إلى انتحال أعمال خصومه ومن ثم إظهار بعض منها في صيغة محرفة قليلا والادعاء بأنها من أعماله الأصلية. أما إذا كان لابد من اختيار عالم فيزياء سابق لريمان مشى على نفس النهج فإن اختيارنا لا بد أن يقع على غريم كاوشي الفلسفي والعلمي الرئيسي في باريس ألا وهو لوجوندر.

المشكلة هي تلك الطريقة التعيسة التي تمرر من خلالها الأساطير نصف المطبوخة من البروفيسور "أ" إلى التلميذ "ب" الذي بدوره سيصبح البروفيسور "ب" ليمرر ذات الإشاعة إلى التلميذ الساذج "ج". إن هذه الطريقة راسخة بشكل قوي في عادات الممارسات التعليمية إلى درجة أن محاولة الرجوع إلى الأعمال الفعلية الأصلية للأشخاص في الفترة المعنية تعتبر جريمة "حط من الذات الملكية" حتى في أوساط العديد من الاختصاصيين المرموقين اليوم.

[4] منذ تأسيس جائزة نوبل في علم الاقتصاد لم يتم انتخاب أي من المرشحين لنيل الجائزة إلا بعد أن تطفح "نظريته الرئيسية" بأنواع الفشل المنتن وبعد أن تثبت عدم أهلية هذا العالم الاقتصادي بعد وقوع كارثة اقتصادية وطنية في مكان ما من العالم نتيجة لتطبيق نظرياته هناك. وللحقيقة نقول أن أداء لجنة نوبل في الفيزياء والكيمياء كانت اكثر عقلانية. لذلك كان يفترض منح مؤلفي "عقيدة الكوارك" جائزة نوبل في "الاقتصاد".

[5] وفقا لدلالات تاريخية تخص بعض القضايا المشار إليها في كتابات بانيني ينبغي وضع تاريخ كتاباته زمنيا في القرن الخامس قبل الميلاد.

[6] يجب أن نرمز إلى المرحلة الحالية من عملية تطور الكون ـ أو المرحلة التجريبية المشار إليها ـ بالمرتبة العددية (N). ويرفع الفعل الانتروبي السالب هذه المرحلة (على سبيل المثال) إلى مرتبة (N+1). يحدث هذا الأمر انطولوجيا ضمن "الكل ـ المتعدد المتصل". وينعكس ذلك في "الكل ـ المتعدد المنفصل" في صيغة إضافة حالة فريدة جديدة. وينعكس هذا أيضاً في صيغة حدوث تغيير في المواصفات القياسية للفعل الذي تتم دراسته في فضاء "الكل ـ المتعدد المنفصل". إن هذا التغير القياسي هو الحقيقة التجريبية التي تنطوي عليها الفرضيات المتعلقة "بالكل ـ المتعدد المتصل" (راجع المصدر السابق، أطروحة ريمان لعام 1859). بخلاف ذلك، إذا كان الكون "ممتداً إلى ما لا نهاية" كزمان ـ مكان مادي، ففي هذه الحالة ستكون السماء ليلا أشد سطوعاً من الشمس طالما أن كل نقطة من السماء ستعكس الإشعاع المنبعث من اكثر من نجمة واحدة. فإذا كان الفعل الانتروبي السالب ينقسم من ناحية التأثير وفقا لما تمليه المرتبة N ، فيجب تبعا لذلك أن تكون هذه هي محددة قسمة الفعل الانتروبي السالب على نفسه. ومن هنا استنتجنا التخمين المذكور في النص. فإذا كانت هذه هي الحال، فإن تغييرا نسبيا لا بد وأن يبدل خصائص الفضاء ـ الزمان الفيزيائي بحيث تتغير القيم الكمية وسرعة الضوء تغيراً نسبيا. لقد قدمنا هذا التخمين حتى نوضح القضايا التي ينبغي أن ترسخ في أذهاننا كفكرة مُلحّة متكررة عندما نشرع بالتخطيط لفرضياتنا التجريبية في تحقيقاتنا المستمرة من يوم لآخر.


{{{نهاية الفصل الخامس}}}





Citizens Electoral Council © 2016
Best viewed at 1024x768.
Please provide technical feedback to webadmin@cecaust.com.au
All electoral content is authorised by National Secretary, Craig Isherwood, 595 Sydney Rd, Coburg VIC 3058.